13-10-2025
محمد السايس
اليوم منذ الساعات الأولى يتوافد القتلة ومؤيدي المجزرة، يجتمع القادة رعاة الحروب، وتجار الدم الفلسطيني، والسماسرة الذين باعوا الإنسانية في المحافل الدولية.
أتوا من أمريكا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا ومصر والأردن والإمارات، ليضعوا توقيعاتهم على ورقةٍ جديدة تُسمّى «سلامًا». يجتمعون في شرم الشيخ، مدينة البحر والقصور والمواكب الرسمية، ليحتفلوا بما يسمونه “انتصار العقل”، بينما تتصاعد من غزة رائحة لحمٍ بشريٍ محترق.
مشهدٌ فخم، مُضاء بالأعلام والابتسامات، يتصدره قادةٌ فقدوا صلتهم بالحقيقة، يقفون أمام الكاميرات يبتسمون كأنهم صانعي الحياة. لكن خلف كل كاميرا طفلٌ يبحث عن بقايا خبزٍ تحت الركام، وأمٌ تتوسد صورة ابنها الذي لم يبقَ منه إلا شظية صغيرة من كفّه.
العالم في شرم الشيخ يرتدي بدلًا أنيقة ويتحدث عن “الأمل في السلام”، بينما في غزة، حيث الأرض سوداء من الرماد، يبحث الناس عن معنى للنجاة. أيُّ سلامٍ هذا الذي يُوقّعه من صنع الموت؟ وأيّ أملٍ يُمنَح من يدٍ لم تغسل بعد دماء الأطفال؟
يا لها من مفارقةٍ تُوجع القلب: قاعات مكيفة بالوعود، وأجساد تتفحم بالفسفور. موائد ممتدة بالرفاهية، و مخيمات مكتظة بالجوعي و العراة. أصوات موسيقى واحتفال هناك، وصوت أمهات يودعن أبناءهن هنا.
كل شيءٍ في الصورة مُزيّفٌ ورغم انه مُصمَّمٌ بإتقان: البساط الأحمر، العدسات، خطابات “التعاون المشترك” و“إعادة الإعمار” وقلادة النيل .لا أحد يذكر أن من يُعاد إعمارُه هو شعبٌ يُباد، وأن “الإعمار” صار كلمةً تاليةً في القاموس بعد “الدمار”.
تتسابق الشاشات على بث اللقطات الباذخة للقادة، والمذيعون يتحدثون عن «حقبة جديدة من السلام»، وكأننا لم نرَ الحقبة القديمة وهي تدوس على صدور الناس.
سلامهم هذا لا يُبنى على المحبة، بل على الركام. لا يقوم على العدالة، بل على توازن القوة بين السيد والعبد. سلامٌ يُحرس بالدبابات ويُسوَّق بالابتسامات، سلامٌ لا مكان فيه للضحايا إلا كأرقام في تقريرٍ دوليٍ بارد.
اليوم، وأنا أتابع الصور الفخمة التي تُبث من شرم الشيخ، لا أرى إلا مشهدًا سرياليًا من نهايات الحضارة، أرى العالم يضحك وهو يفقد روحه. أرى القيم الإنسانية تُدفن تحت أقدام الملوك والرؤساء، بينما يصمت الشعراء والعلماء والفلاسفة خوفًا أو خضوعًا.
لم يعد العالم يبحث عن الحقيقة، بل عن توازنٍ بين الكذب والمصلحة.
اليوم على غير عادتي، لن أشرح، لن أُحلّل، لن أُجادل في السياسة، أكتب من قلبٍ يختنق، أكتب وأنا أرى قوافل القتلة تصل إلى البحر الأحمر محاطةً بالموسيقى والأضواء، وأتذكر البحر الآخر في غزة، حيث يطفو الموتى على السطح، وحيث البحر نفسه امتلأ بالبكاء.
أيها العالم المنهار…
كيف تجرؤ أن تتحدث عن السلام بينما تبارك حصار الجائعين؟
كيف تنصّب القتلة رُسلًا للحياة؟
أيها العالم الذي غفر للقاتل وأدان الضحية، إنك تسير نحو هاويتك بابتسامةٍ واثقة.
هناك في غزة، لم يعد الناس يحلمون بالنصر، بل بلقمة، بقطرة ماء، بساعة نومٍ دون انفجار. وهناك في شرم الشيخ، يتحدث السادة عن “الازدهار الإقليمي” و“آفاق التنمية”، بينما تتبخر الإنسانية في صمتٍ مُخزٍ.
يا لعار هذا القرن الذي بدّل الخريطة الأخلاقية للعالم: صارت الجرائم وجهة نظر، وصار القاتل صديقًا استراتيجيًا، وصارت الحقيقة تهمة.
لقد دخلنا زمنًا يُكافأ فيه من يُتقن قتل الأبرياء، ويُعاقب من يقاوم على «تهديد الاستقرار».
أكتب اليوم، لا لأُسجّل موقفًا سياسيًا، بل لأصرخ من قاع إنسانيتي. أكتب لأن الكلمات آخر ما تبقّى لنا حين تخذلنا العدالة، وحين يضيع صوت المظلوم وسط التصفيق.
أكتب وأنا أرى الشعوب رغم مقاومته تدفع دفعا للاضمحلال، القيم تتساقط، والإنسانية تُستبدل بالهمجية، والموت يُغلف بورق سلامٍ فاخر. سلامهم إعلانٌ لزمنٍ بلا روح، سلامهم أكفانٌ بيضاء على هيئة أوراق دبلوماسية، سلامهم هو أن تموت الشعوب بصمتٍ ليعيش القتلة بكرامةٍ مزيفة.
وفي النهاية، بينما ترتفع الكؤوس في شرم الشيخ، تقابلها في غزة صورة مغايرة حيث ترتفع الأكف إلى السماء، شتّان بين مَن يحتفل بالحياة المزيّفة، ومَن يطلب الحياة الحقيقية، بينما تحتاج غزة للسلام لتلتقط أنفاسها، ربما لن يسأل احد عن غزة غدا، ولن تُذكر في نشرات الاخبار بعد الغد، لكن رائحة الرماد ستبقي في الهواء تذكّر هذا العالم بما فعله بنفسه حين اختار أن يغفر للقتلة والمجرمين، فليس أسوأ من عالم يعتاد الدم، إلا عالم يرى الدم جميلاً إذا صُوِّر جيداً.

