10-08-2025
محمد السايس
في منتصف شهر يونيو الماضي نشرت مقالًا بعنوان: من الجون إلى “الجبن”: كيف وقعت مصر في مصيدة الغاز الصهيوني، عن السقوط المدوي للنظام المصري في مستنقع التبعية للكيان الصهيوني، وسيطرة الأخير على معدلات إنتاج الطاقة الكهربية في مصر عبر اعتماد حكومة السيسي على الغاز الإسرائيلي كمصدر أساسي للطاقة.
لكن ما نشهده الآن لم يعد مجرد ضعف أو تواطؤ؛ إنه انتقال إلى مرحلة جديدة من الجنون السياسي، حيث يبرم عبد الفتاح السيسي اتفاقية جديدة لاستيراد الغاز من الاحتلال الإسرائيلي بقيمة 35 مليار دولار، في لحظة تاريخية تتطلب موقفًا مغايرًا تمامًا.
هذه الخطوة لا تأتي معزولة عن سياقها، بل تندرج ضمن مشهد متناسق ومترابط من التعاون السياسي والاقتصادي والعسكري بين القاهرة وتل أبيب، تحت المظلة والحماية المباشرة للإدارة الأمريكية، ودون أي اعتبار لرغبات المصريين وتطلعاتهم. فالدكتاتور الذي صادر الحريات في الداخل، وفرض الحصار على منظمات العمل السياسي والمدني، وكمّم أفواه المعارضين، يمضي في الخارج في مسار تحالف استراتيجي مع عدو تاريخي للشعبين المصري والفلسطيني.
تحالف يمتد من العسكرية إلى التجارة
الاتفاق الأخير ليس انحرافًا عابرًا، بل هو استثمار لسلسلة من التعاونات التي تعمّقت في السنوات الأخيرة ومنها تقديم تسهيلات لوجستية للسفن الحربية الإسرائيلية، والسماح لها باستخدام الموانئ والمياه المصرية، كما حدث مع السفينة “كاترين” المحملة بالمتفجرات، التي رفضت جميع موانئ العالم استقبالها، بينما فتحت لها مصر زراعها، أو مع السفينة الحربية الإسرائيلية التي سمح لها بالمرور عبر قناة السويس.
تصاعد غير مسبوق في التبادل التجاري: الصادرات المصرية إلى إسرائيل تضاعفت عام 2024 مقارنتا بـ 2023، وذلك لإمداد الاحتلال بكل ما يحتاجه لتعويض نقص المنتجات والخسائر الاقتصادية الناجمة عن إغلاق الحوثيين لمضيق باب المندب، بمشاركة الأردن والإمارات والمغرب والبحرين، في الوقت الذي كانت دماء الفلسطينيين ترهق فيه في قطاع غزة.
هذه الحقائق تكشف أن ما يحدث ليس مجرد “تطبيع” بالمعنى التقليدي، بل شراكة كاملة في تأمين واستمرار آلة الحرب الإسرائيلية.
القمع في الداخل… وجه آخر للتحالف في الخارج
السياسة الخارجية المنحازة للاحتلال لا يمكن فصلها عن سياسة الداخل القمعية، فمن يبيع الإرادة الوطنية في الخارج، هو ذاته الذي يسحق حقوق المواطنين في الداخل وما كان ليفعل الأولى إلا كنتيجة للفعلة الثانية، ففي الأشهر الماضية تم إقرار قانون الإجراءات الجنائية ليقضي على آخر أشكال العدالة حتى ولو كانت شكلية، ويمنح الأجهزة الأمنية سلطات مطلقة على حساب القضاء، بعدها تم تعديل قانون الإيجار القديم الذي يسمح بطرد مئات الآلاف من الأسر من منازلها خلال سبع سنوات، وتشريد شرائح واسعة من المجتمع.
وفي تلك الأثناء تنطلق حملات الاعتقالات والتشهير التي تستهدف صانعي المحتوى على منصات التواصل الاجتماعي، وتم اتهامهم باتهامات ملفقة في إطار سياسة ترهيب واسعة تطال حتى الأنشطة الترفيهية، لزرع الخوف في المجتمع وإخماد أي صوت مستقل.
الحصار الكامل للحياة السياسية: إغلاق المجال العام، وتجفيف منابع العمل الأهلي والنقابي، وتجريم أي محاولة للتعبير عن الرأي، آخرها رفض طلب مقدمة من بعض الأحزاب المدنية للسماح لها بعمل مظاهرة أمام سفارة الاحتلال الإسرائيلي بالقاهرة للتعبير عن رفض وإدانة الإبادة الجماعية والتجويع الواقع للفلسطينيين، واعتقال الناشط خالد محمود المدون وعضو حركة المقاطعة BDS.
إنها سياسة شمولية متكاملة لإخضاع الداخل بالقبضة الأمنية، والخارج يُدار وفق إملاءات الحليف الأمريكي والعدو الصهيوني.
بهذا المعنى، لم يعد النظام مجرد “متفرج” على المذبحة، بل شريك موضوعي فيها، عبر الأفعال وإن اختلفت الأقوال وتصاعدت بيانات التنديد، فقد لعب النظام المصري دورًا يتجاوز الصمت إلى المشاركة الفعلية في خنق القطاع قبل الحرب وفي أيامها الأولى، فأغلق الجانب المصري من معبر رفح أمام دخول البضائع منذ بداية الحرب، أي قبل أن يحتل الجيش الإسرائيلي الجانب الفلسطيني من المعبر.
خلافا للتنسيق الأمني المباشر مع الاحتلال قبل السماح بعبور الجرحى والمصابين، عبر شركة “هلا” التابعة لـ “المجموعة المصرية للمشروعات” التي يديرها إبراهيم العرجاني، المعروف بعلاقاته الوثيقة مع الأجهزة الأمنية.
فقد تم فرض الرشاوى المقننة عبر فرض رسوم رسمية وغير رسمية تصل إلى 5000 دولار على الشخص الواحد، في واحدة من أبشع صور استغلال الكارثة الإنسانية لتحقيق مكاسب مالية.
هذه الممارسات تكشف أن الحصار لم يكن مجرد نتيجة للعدوان الإسرائيلي، بل سياسة متعمدة شارك فيها النظام المصري، لتتحول معاناة الفلسطينيين إلى فرصة للربح والتقارب مع الإسرائيليين.
الجنون الذي يجب أن يتوقف
من “الجون” إلى الجبن، ومن الجبن إلى الجنون… هكذا يتحرك النظام في مسار تصاعدي من التبعية والخيانة، غير عابئ بالإرادة الشعبية أو التاريخ الوطني أو دماء الشهداء.
ما يجب أن يكون واضحًا هو أن هذا المسار ليس قدرًا محتومًا، وأن رفضه والنضال ضد تحالف النظام والاحتلال هو امتداد للنضال ضد القمع والاستبداد في الداخل. المعركتان واحدة، والخصم واحد، والحرية في القاهرة لا تنفصل عن الحرية في غزة وفلسطين.
ما نشهده اليوم هو الجنون السياسي بعينه، وإن لم يواجهه الشعب بإرادة صلبة وتنظيم واعٍ، فسوف نجد قوات الجيش المصري ذات يوما تشارك في قتال المقاومين في غزة جنبا إلى جنب مع قوات المحتل الإسرائيلي أو حتى بديل عنه.

