03-08-2025
محمد السايس
في مصر، القمع لم يعد مجرد سياسة أمنية تستهدف معارضين سياسيين أو فئات بعينها. المشهد أصبح أوسع بكثير. الذي يعتقل سوزي الأردنية اليوم هو نفسه الذي اعتقل أحمد أبو زيد، وصفوان ثابت، وشباب الدفاع عن فلسطين، ورسام الكاريكاتير، وأهالي الوراق والعريش، وعمال الحديد والصلب، والدكتورة البذيئة بتاعت كفر الدوار، وشهاب بتاع الجمعية، وأحمد طنطاوي، وجماهير الأهلي والزمالك. قائمة المعتقلين و المقموعين والممنوعين لا تتوقف، لأنها ببساطة قائمة تشمل مصر كلها.
القمع في مصر لم يعد حالة استثنائية، بل صار هو القاعدة. كل مشكلة تقابلها الدولة – إقتصاد، صحة، تعليم، سياسة – تُرحّل فوراً إلى الأجهزة الأمنية، لم يعد هناك عقل سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي يُدير، بل أصبحت الدولة كلها تُدار عبر الأمن: القمع والمنع والحجب والمصادرة والتخويف هي أدوات الحكم الوحيدة.
توسع الدولة في الحلول الأمنية ليس علامة على قوتها كما يتوهم البعض، بل هو انعكاس لتفسخها وعجزها عن إيجاد حلول حقيقية. كلما ازدادت الأزمة، ازداد النظام لجوءًا للعنف، وكلما ضاق الخناق عليه، وسّع دوائر الاستهداف ليطال فئات جديدة لم يكن أحد يتخيل أن تكون في مرمى النيران.
لكن المأساة الحقيقية أن هذا القمع المُمنهج تجاوز حدود السلطة وانتشر في جسد المجتمع نفسه كمرض عضال. ما بدأ كسياسة قمع منظمة ضد المعارضين أصبح ثقافة وسلوك يومي. الدولة نجحت في تصدير أدواتها القمعية إلى الأحزاب والجماعات السياسية والنخبة والمثقفين والجماهير .
اليوم، نشهد انهياراً كاملاً لأي نموذج ديمقراطي داخل الكيانات السياسية المصرية، حيث صار التخوين والطرد ورفع القضايا والاستعانة بالأمن أدوات “نضال” لدى أطراف كثيرة. لم تستطع النخب الثقافية والسياسية أن تقدم نموذجًا ديمقراطيًا واحدًا يُحترم فيه حق الاختلاف وحرية التعبير. فشلت النخبة، كما فشل المجتمع، في بناء ثقافة سياسية تتجاوز أسلوب الأجهزة الأمنية.
هذه ليست أزمة أفراد ولا مجرد أخطاء سلوكيات شخصية. هذا انعكاس مباشر لسياسة طويلة الأمد هدفت إلى تجريف الحياة السياسية والاجتماعية في مصر، حتى لم يبق إلا الحل الأمني بصفته الخيار الوحيد المطروح أمام الجميع: الدولة، والمجتمع، والأحزاب، وحتى الأفراد في تعاملهم مع بعضهم البعض.
لكن الكارثة الأكبر إن القمع ده مبقاش واقف عند حدود السلطة والمعارضة. اللي بدأ كقمع سياسي منظم ضد المعارضين، اتحول مع الوقت لمرض اجتماعي مستفحل. الدولة نجحت في إنها تصدّر أدواتها القمعية للناس نفسها. بقى القمع مش بس شُغل الأجهزة الأمنية، ده بقى طريقة تفكير، رد فعل تلقائي عند ناس كتير.
مبقاش فيه مبادرة جادة خارجة من وسط كل الركام ده لمواجهة أي مشكلة اجتماعية . مش هتلاقي غير العفن اللي بيطالب الداخلية تتدخل في كل تفصيلة، واللي بيكتب على صفحة وزارة الداخلية عشان تتحرك، واللي عايز الرقابة تمنع أغنية، واللي بيقول نصادر فلوس ناس معينة، واللي بيطالب بحجب أبلكيشن، واللي بيصور الناس وينتهك خصوصيتهم، واللي بيستسهل العنف في التعامل مع غيره… كله بقى بيقلد الدولة في قمعها. بقى جوه كل واحد دولة صغيرة واستسهال لاستخدام القمع.
لكن الحقيقة الجوهرية التي لا يريد هذا النظام الاعتراف بها، أن الحرية ليست حقًا فرديًا يُمنح أو يُصادر من هذا أو ذاك حسب مزاج السلطة. الحرية، في جوهرها، قضية جماعية. حرية التعبير ليست ترفًا، ولا رفاهية أخلاقية، بل هي شرط أساسي لأي مجتمع قادر على حل مشكلاته. حرية كل فرد في التعبير عن نفسه وعن قضاياه هي الوجه الآخر لحرية المجتمع في الدفاع عن مصالحه الجماعية.
من منظور ماركسي، القمع ليس أداة لتثبيت النظام فقط، بل هو أيضًا وسيلة لإدامة علاقات الاستغلال والهيمنة الطبقية. لا يمكن لأي سلطة أن تحكم مجتمعًا يقف على قدميه بحرية. ولذلك، فإن النضال من أجل حرية التعبير ليس معركة نخبة ولا معركة أفراد، بل هو معركة الطبقات الشعبية، معركة المجتمع كله لاستعادة حقه في أن يكون فاعلاً في تقرير مصيره.
الحرية ليست قضية سوزي الأردنية ولا علاء عبد الفتاح ولا شهاب بتاع الجمعية وحدهم، بل هي قضية كل من يعمل ويعيش ويُفكر ويُحب في هذا البلد. معركة الحرية لا تُخاض دفاعاً عن الأفراد، بل تُخاض من أجل مستقبل جماعي، من أجل أن تكون لنا جميعاً الكلمة في وطننا ولذلك ابدّي دفاعي الغير مشروط في حق الجميع في التعبير عن نفسه كما يشاء.

