من البحر إلى البر: الطريق أطول والتحديات أصعب

10-06-2025

محمد السايس

فجر أمس، استولت قوات الاحتلال الصهيوني على سفينة “مادلين” المتجهة إلى غزة لكسر الحصار، واعتقلت طاقمها بالكامل، في انتهاك جديد للقانون ولكل معاني الإنسانية وحق الشعوب في التضامن مع قضايا التحرر. انتهاك يليق بإجرام دولة الإبادة الجماعية واستهداف الأطفال والمؤسسات الطبية.

السفينة التي أبحرت بشجاعة، تلحقها “قافلة الصمود” التي تحركت من تونس مرورًا بليبيا ثم مصر، لتذكّرنا بحقيقة مُرّة: أن الحصار المفروض على غزة لم يكن إسرائيليًا فقط، بل شاركت فيه الأنظمة العربية، ومصر بالتحديد التي لعبت دورًا محوريًا في إحكام حصار القطاع. فإن التحدي الأول يكمن في الضغط على حكومة السيسي للسماح للقافلة بالمرور، وتمكين جموع المصريين الراغبين في الالتحاق بها من المشاركة فيها بأمان.

حكومة السيسي… شعارات رنانة وفعل صهيوني

رغم الشعارات الرنانة، والشجب، والإدانة، وارتفاع صوت التنديد بالإجرام الإسرائيلي في قطاع غزة، إلا أن الفعل كان مغايرًا تمامًا. فمنذ أكثر من 17 عامًا، شكّلت الدولة المصرية أحد أركان الحصار المحكم على قطاع غزة. ولم يكن ذلك تواطؤًا ظرفيًا، بل نهجًا ثابتًا من التعاون الأمني والاقتصادي والسياسي مع العدو الصهيوني.

منذ الانقلاب العسكري في 2013، ازداد هذا الدور حدة، وتحولت مصر إلى شريك فعلي في تجويع غزة. أُغلق معبر رفح لفترات طويلة دون أسباب، مع تجاهل تام لدوره الإنساني والسياسي كمنفذ وحيد للقطاع مع العالم، وتحوله إلى أداة للابتزاز السياسي. كما أصبح التنسيق الأمني مع الجانب الإسرائيلي هو المحدد لكل ما يُمرَّر إلى القطاع، ناهيك عن المعاملات غير الإنسانية والابتزاز المالي للفلسطينيين على يد ضباط المعبر، وشركة “هلا” المملوكة للمخابرات وتدار بواسطة إبراهيم العرجاني وميليشياته.

مُنعت قوافل الإغاثة والتضامن القادمة من الداخل والخارج، كما حدث مع قافلة “ضمير العالم” التي جرى تفكيكها، وترحيل الأجانب المشاركين فيها، وتهديد المتضامنين المصريين بها. لم تقف مصر على الحياد، بل منعت التضامن مع فلسطين، واعتقلت العشرات من المتضامنين مع القضية الفلسطينية. وما زاد الطين بلة أنها قدّمت تسهيلات لوجستية وعسكرية لدولة الاحتلال، بينما منعت وفد الأطباء والدواء من عبور المعبر.

وكان معبر كرم أبو سالم – المصري الإسرائيلي – أقرب إلى النظام، وأضمن لتحالفاته السياسية، من معبر رفح – المصري الفلسطيني – فاختار إغلاقه، وأطلق الأكاذيب حوله، وأغلق أذنيه عن المطالبات الشعبية والرسمية الفلسطينية بفتحه من الجانب المصري قبل احتلاله.

الوسيط الذي يحرس الحصار

لم تكن مصر يومًا “وسيطًا نزيهًا” كما يُروَّج إعلاميًا، أو كما يسعى بعض السياسيين المرتزقة لتجميل موقفها وغسل يديها من الاشتراك في الإبادة، معتمدين على الطنطنات والنعرات المخادعة التي يطلقها السيسي ووزارة خارجيته. لقد كانت حكومة السيسي توازن بين طرفين غير متكافئين: شعب تحت الاحتلال، وجيش استيطاني مدعوم دوليًا. لم توازن بين قوتين، بل بين كفّتي مصالحها، فاستخدمت غزة كورقة مساومة لأجل دعم دولي، ولشرعنة نظام قمعي، وللحصول على تسهيلات مالية لنظام يشكّل الفساد والنهب وسوء الإدارة بنيته الاقتصادية.

والآن، بينما صواريخ الاحتلال تمزّق أجساد الفلسطينيين، والجوع يعصر أحشاءهم، تسجّل معدلات التجارة بين مصر وإسرائيل أرقامًا قياسية خلال حرب الإبادة.

كسر الحصار يبدأ من القاهرة

اليوم، مع انطلاق قافلة الصمود من تونس باتجاه غزة، يصبح السؤال الأهم: هل ستسمح الدولة المصرية للقافلة بالعبور؟

التجارب السابقة تؤكد أننا أمام خيارين: إما أن يُسمح بمرور القافلة لتلتحق بمئات الشاحنات المصطفة على الجانب المصري من المعبر، في استكمال لمسلسل الخزي والعار الذي يؤديه النظام المصري، أو يتحول عبور القافلة ودخولها إلى قطاع غزة إلى معركة شعبية مصرية داخلية، ليست فقط من أجل الضغط على نظام فاقد للمشروعية، بل لإعادة الاعتبار للمعنى الحقيقي للتضامن مع الفلسطينيين، وإعادة الاعتبار إلى دورنا نحن المصريين وموقفنا من هذا الصراع ومن هذه القضية.

المعركة داخل مصر: مسؤوليتنا جميعًا

على الأحزاب، والنقابات، والسياسيين، والأدباء، والنشطاء، وعلى كل مدافع عن فلسطين، أن يعلنوا جميعًا موقفهم بشكل واضح. على المصريين أن يخاطبوا إنسانيتهم وضمائرهم، وأن يحشدوا كل يائس منعه القمع والتضييق، من أجل إصدار صوت جماعي لا يمكن إسكاتُه، يطالب بمرور القافلة عبر معبر رفح. صوت يطالب بحق كل المصريين الراغبين في الالتحاق بالقافلة ودخول القطاع بالانضمام إليها. صوت يردد: “ارفعوا أيديكم عن المصريين، ارفعوا أيديكم عن غزة!”

إن ما قدمه طاقم سفينة “مادلين” من شجاعة وتضحية يجعلنا نرى المعنى الحقيقي للتضامن بين الشعوب، ويضعنا أمام مسؤولية كبيرة حول أهمية التضامن وقدرته على تحطيم الأسوار وبناء الجسور بين المضطهدين. فالعالم اليوم يتظاهر من أجل فلسطين ومن أجل “مادلين”.

التوجه إلى جماهير شعبنا اليوم ضرورة، لا إلى النظام. الاحتماء بالساخطين والمتضامنين مع فلسطين واجب، لا الالتفاف عليهم أو خداعهم. الخيانة تكمن في تفريغ النضال من معناه، في التنسيقات السرّية مع الأجهزة الأمنية.

نجحت “مادلين”، بقدر ما كانت عليه من شفافية، في غزو قلوب الناس قبل أن تغزو شواطئ غزة. وقد يمنع النظام المصري وصول قافلة الصمود، أو يمنعها جيش الاحتلال نفسه، كما فعل مع “مادلين”. فقد يستطيعون حرمان الفلسطينيين مما تحمله القافلة من مؤن ومساعدات، لكنهم أبدًا لن يستطيعوا كسر إرادة المؤمنين بإنسانيتهم، والمتمسكين بها، والرافضين لبشاعة ما يحدث للفلسطينيين، وصمت حكومات العالم وتآمرها المشين عليهم.

كما أنهم قد يغسلون أيديهم من الجريمة، لكن لا عذر للسكوت عن الخيانة أو الالتفاف عليها وتصويغها.

على كل مدافع عن فلسطين أن يعتبر معركة التضامن مع غزة جزءًا من معركته ضد القمع، وضد التطبيع، معركته من أجل الإنسانية، معركته ضد “الخلجنة” و”الخنْزرة”، معركته ضد الرواية الأمنية، وضد النظام الذي خان فلسطين… وخان شعبه.

معركة جديدة لم تُحسم نتائجها بعد، ربما تكون خطوة على طريق الحرية لنا جميعًا.إن كانت غزة لا تزال تقاوم تحت القصف، فواجبنا في القاهرة ليس الصمت، بل التحرك لفتح الطريق أمام من يحاولون الوصول إليها. فلتكن القافلة القادمة اختبارًا جديدًا – لا للنظام فقط، بل لضميرنا الجمعي.