من أجل معتقلين وأطفال ولاجئين وناجيات وغيرهم

12-04-2025

في أزمة تم إثارتها في الأيام الماضية في أوساط الحقوقيين والسياسيين، بدأت باتهامات بأن أحد الأطراف ادّعى تعرضه للتهديد والابتزاز الجنسي من الطرف الثاني، وانتهى الأمر إلى حقيقة أن كلا الطرفين -وهما صحفية وناشطة حقوقية تعرضت سابقا للاعتقال ومحامي ناشط حقوقي تعرض سابقا ايضا للاعتقال- يوجهان اتهامات مالية للآخر تتعلق بالاستيلاء أو التزوير أو الاختلاس من مشروع زُعِم العمل عليه، وطبعًا هذا المشروع بالتأكيد ليس مشروع بيع بطاطا على الكورنيش لكن ذلك ليس موضوعنا، لكنه مدخل وثيق الصلة لواحدة من أشكال العفن، ويفتح أعيننا على جريمة تحدث يوميًا داخل بعض المنظمات الحقوقية.

لمن لا يعرف، المنظمات الحقوقية في مصر هي جزء من منظمات المجتمع المدني، وتتلقى تمويلات من جهات متعددة: حكومية وغير حكومية، من هيئات ومنظمات ورجال أعمال ومؤسسات مالية وأحزاب، وكذلك من تبرعات الأفراد. وتكون هذه المراكز وبرامجها ذات طابع نَفعي عام، حسب أهداف البرنامج والممولين له، مثل: إطعام الفقراء، كفالة الأيتام، رصد الانتهاكات، مساعدة اللاجئين، أو تقديم الدعم القانوني والمادي للمعتقلين، أو دعم نوع معين من الفنون أو الحِرَف وغيرها. هذه البرامج منتشرة في كل دول العالم، وليست بدعة، بل على العكس، في خارج مصر أنشطته منظمات المجتمع المدني شائعة ومتسعة.

أما في مصر، وبسبب الإجراءات القمعية التي زادت حدة في عهد السيسي، فقد تم السعي لمحاصرة نشاطات المنظمات الحقوقية بهدف وقف توثيق الانتهاكات وتقليل أشكال الدعم المختلفة -قانوني، نفسي، إعلامي- للمظلومين والمضطهدين من عمّال وطلاب ومعتقلين ولاجئين وغيرهم.

جوهر المشكلة أن هذا المنع والقمع أدي إلى زيادة ظهور مراكز تعمل “تحت بير السلم”، في ظل غياب الرقابة والمراجعة المالية على مشروعات من المفترض أنها ذات طابع نَفعي عام، باستثناء عدد قليل جدًا من المراكز. ومع مرور الوقت، تنامت الانحرافات، وأصبح التقصير في العمل سِمة أساسية، وزاد عدد المراكز الحقوقية الصغيرة التي تتلقى تمويلًا دون وجود هيئة رقابية. وازداد عدد المنتفعين والانتهازيين، وظهرت مشاريع وهمية، وتزوير، ونصب “عيني عينك”.

وبذلك غاب الدور النَفعي العام لتلك المشروعات أو تراجع بشدة، وتم استُغلال عدد كبير من الضحايا لتحقيق مصالح مادية. والأسوأ من ذلك، أن عددًا من الحقوقيين -الذين يُفترض أنهم يضعون مسألة القانون والحقوق في مقدمة أولوياتهم- تصالحوا مع فكرة أن محاميً مثلًا، يعمل في مركز حقوقي ويتقاضى منه راتبًا، ويذهب للمحكمة ليقوم بعمله، في الوقت نفسه يطلب من أهالي المعتقلين مبالغ مالية.

هذا الأمر تكرر لدرجة أنه أصبح عادة، ويمكن القول إن المعتقلين من السياسيين والنشطاء هم أقل الفئات تعرضًا لهذا الاستغلال، لكننا جميعًا داخل السجون، شهود على تعرض أعداد مهولة من المعتقلين وأسرهم لاستغلال من عصابات تتاجر بالقضية.

الدولة هي المسؤول الأول عن هذا الفساد، وهي المستفيد الأول منه أيضًا.  فالأجهزة الأمنية لديها رغبة حقيقية في إبقاء الوضع كما هو، طالما أنه لا يضر بمصالحها، فحين تدور عجلة الفساد، يتقاعس كثير من الحقوقيين عن أداء واجبهم، ويتصارعون على الأموال، فتتركهم الأجهزة الأمنية احيانا “يسترزقوا”، وأحيانًا “يطرمخوا”، وأحيانًا أخرى يشاركون في استغلال الضحايا.

مثلًا في السنوات الأولي من ثورة يناير، حين كان يتعرض طالب أو عامل للانتهاك أو الفصل أو الاعتقال أو التمييز، كنا نساعدهم بالحصول على دعم قانوني من خلال توصيلهم بأي مركز حقوقي أو محامٍ حقوقي لتقديم الدعم مجانًا. حاليًا، عندما أرى أحدًا يتعرض لأي انتهاك، أخشي من أن أوصله بمحامٍ حقوقي حتى لا يطلب منه أموالًا، فأفقد مصداقيتي أمامه، واضطر لتحذيره أن هذه خدمة مجانية وأن هذا حقه.

إذا أردنا التغيير فعلًا، علينا أن نمتلك شجاعة المواجهة، وننبذ النفعية.

يجب أن نحمّل المسؤولية أولًا لسياسة القمع والتخوين التي تمارسها الدولة وأجهزتها القمعية على المنظمات الحقوقية، وثانيًا من أجل وقف سلسلة التقصير في العمل والفساد المالي واستغلال الضحايا، يجب أن يكون هناك تحقيقات واسعة، واستبعاد كل من استغل الضحايا وتربّح من معاناتهم، وتوقيع العقوبات اللازمة، مع فرض الشفافية والتعاون لتحجيم هذا الاستغلال.

هذه المشروعات ليست مشروعات شخصية، ولا محلات تجارية ورثها الحقوقيون عن آبائهم، حتى يتم “الطرمخة” على هذا العفن بهذا الشكل.

وحتى يوضع  كلامي في موضعه الدقيق، فأنا لم أقصد أبدا التعميم فلديّ أصدقاء حقوقيون ملتزمون وجادّون ومخلصين في عملهم -على الأقل أحسبهم كذلك- وأعتقد أنه لا يزال هناك غيرهم  الكثير من المخلصين لعملهم  الذين لا اعرفهم، وما أكتبه هنا ليس نقدًا لدور منظمات المجتمع المدني ككل، بل حين يتوقفون عن السرقة ويقومون بدورهم الحقيقي، يمكن حينها أن ننتقدهم على أسس أيديولوجية.

وبالصدفة، فإن طرفي الواقعة المذكورة، سبق أن جمعني بهما نفس المكان، فقد سُجن كل منهم  في زنازين متجاورة لمكان اعتقالي  في أوقات متتابعة، وجمعتني بهما علاقة التضامن بين المعتقلين، ولا تربطني بهما أي صلة شخصية على ما أتذكر، وما دفعني  لكتابة تلك السطور هو استغلال مساحة المناقشة المفتوحة الآن في قضية الحقوقيين، واتهامات الفساد المالي المتبادلة، للإشارة لعدة نقاط أكثر جوهرية واهم بالنسبة للضحايا الحقيقيين وذويهم.

من يجد في نفسه غصة في كلامي، عليه أن يتذكر أن هناك جريمة اخلاقية ومادية تحدث بحق ضحايا التمييز والقمع وغيرهم ، تزيد من معاناتهم، وأن التماهي مع استغلالهم، أو التغاضي عنه، يدفعهم إلى الصمت، والمستفيد من ذلك هو استمرار نمو العفن على سطح المجتمع المدني والذي يعبر عن إحدى صور اضمحلال الحياة السياسية بشكل عام.

محمد السايس